فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والوجه الثاني: أن النطفة بتقدير أنها جسم مركب من أجزاء مختلفة الطبائع، إلا أنه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى أجزاء يكون كل واحد منها في نفسه جسمًا بسيطًا، وإذا كان الأمر كذلك، فلو كان المدبر لها قوة طبيعية لكان كل واحد من تلك البسائط يجب أن يكون شكله هو الكرة فكان يلزم أن يكون الحيوان على شكل كرات مضمومة بعضها إلى بعض، وحيث لم يكن الأمر كذلك، علمنا أن مدبر أبدان الحيوانات ليس هي الطبائع ولا تأثيرات الأنجم والأفلاك، لأن تلك التأثيرات متشابهة، فعلمنا أن مدبر أبدان الحيوانات فاعل مختار حكيم، وهو المطلوب، هذا هو الاستدلال بأبدان الحيوانات على وجود الإله المختار.
وهو المراد من قوله سبحانه وتعالى: {خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ} وأما الاستدلال على وجود الصانع المختار الحكيم بأحوال النفس الإنسانية فهو المراد من قوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في بيان وجه الاستدلال وتقريره: أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهمًا وذكاء وفطنة من نفوس سائر الحيوانات، ألا ترى أن ولد الدجاجة كما يخرج من قشر البيضة يميز بين العدو والصديق فيهرب من الهرة ويلتجىء إلى الأم، ويميز بين الغذاء الذي يوافقه والغذاء الذي لا يوافقه وأما ولد الإنسان فإنه حال انفصاله عن بطن الأم، لا يميز ألبتة بين العدو والصديق ولا بين الضار والنافع، فظهر أن الإنسان في أول الحدوث أنقص حالًا وأقل فطنة من سائر الحيوانات ثم إن الإنسان بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ويصير بحيث يقوى على مساحة السموات والأرض ويقوى على معرفة ذات الله وصفاته وعلى معرفة أصناف المخلوقات من الأرواح والأجسام والفلكيات والعنصريات ويقوى على إيراد الشبهات القوية في دين الله تعالى والخصومات الشديدة في كل المطالب فانتقال نفس الإنسان من تلك البلاد المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لابد وأن يكون بتدبير إله مختار حكيم ينقل الأرواح من نقصانها إلى كمالاتها ومن جهالاتها إلى معارفها بحسب الحكمة والاختيار، فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى: {خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ}.
وإذا عرفت هذه الدقيقة أمكنك التنبيه لوجوه كثيرة:
المسألة الثانية:
أنه تعالى إنما يخلق الإنسان من النطفة بواسطة تغيرات كثيرة مذكورة في القرآن العزيز منها قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ ثُمَّ جعلناه نُطْفَةً في قَرَارٍ مَّكِينٍ} [المؤمنون: 12، 13]. إلا أنه تعالى اختصر هاهنا لأجل أن ذلك الاستقصاء مذكور في سائر الآيات، وقوله؛ {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} فيه بحثان:
البحث الأول: قال الواحدي: الخصيم بمعنى المخاصم، قال أهل اللغة: خصيمك الذي يخاصمك وفعيل بمعنى مفاعل معروف كالنسيب بمعنى المناسب، والعشير بمعنى المعاشر، والأكيل والشريب ويجوز أن يكون خصيم فاعلًا من خصم يخصم بمعنى اختصم، ومنه قراءة حمزة: {تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ} [يس: 49].
البحث الثاني: لقوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} وجهان: أحدهما: فإذا هو منطبق مجادل عن نفسه، منازع للخصوم بعد أن كان نطفة قذرة، وجمادًا لا حس له ولا حركة، والمقصود منه: أن الانتقال من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الحالة العالية الشريفة لا يحصل إلا بتدبير مدبر حكيم عليم.
والثاني: فإذا هو خصيم لربه، منكر على خالقه، قائل: {مَن يُحييِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ} [يس: 78]، والغرض منه وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل، والتمادي في كفران النعمة، والوجه الأول أوفق، لأن هذه الآيات مذكورة لتقرير وجه الاستدلال على وجود الصانع الحكيم، لا لتقرير وقاحة الناس وتماديهم في الكفر والكفران.
{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أن أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي بعد الإنسان سائر الحيوانات لاختصاصها بالقوى الشريفة.
وهي الحواس الظاهرة والباطنة، والشهوة والغضب، ثم هذه الحيوانات قسمان: منها ما ينتفع الإنسان بها، ومنها ما لا يكون كذلك، والقسم الأول: أشرف من الثاني، لأنه لما كان الإنسان أشرف الحيوانات وجب في كل حيوان يكون انتفاع الإنسان به أكمل.
وأكثر أن يكون أكمل وأشرف من غيره، ثم نقول: والحيوان الذي ينتفع الإنسان به إما أن ينتفع به في ضروريات معيشته مثل الأكل واللبس أو لا يكون كذلك، وإنما ينتفع به في أمور غير ضرورية مثل الزينة وغيرها، والقسم الأول أشرف من الثاني، وهذا القسم هو الأنعام، فلهذا السبب بدأ الله بذكره في هذه الآية، فقال: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ}.
واعلم أن الأنعام عبارة عن الأزواج الثمانية وهي: الضأن، والمعز والإبل والبقر، وقد يقال أيضًا: الأنعام ثلاثة: الإبل والبقر والغنم.
قال صاحب الكشاف: وأكثر ما يقع هذا اللفظ على الإبل.
وقوله: {والأنعام} منصوبة وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر كقوله تعالى: {والقمر قدرناه مَنَازِلَ} [يس: 39]، ويجوز أن يعطف على الإنسان.
أي خلق الإنسان والأنعام، قال الواحدي: تم الكلام عند قوله: {والأنعام خَلَقَهَا} ثم ابتدأ وقال: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} ويجوز أيضًا أن يكون تمام الكلام عند قوله: {لَكُمْ} ثم ابتدأ وقال: {فِيهَا دِفْء} قال صاحب النظم: أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله: {خَلَقَهَا} والدليل عليه أنه عطف عليه قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} والتقدير لكم فيها دفء ولكم فيها جمال.
المسألة الثانية:
أنه تعالى لما ذكر أنه خلق الأنعام للمكلفين أتبعه بتعديد تلك المنافع، واعلم أن منافع النعم منها ضرورية، ومنها غير ضرورية، والله تعالى بدأ بذكر المنافع الضرورية.
فالمنفعة الأولى: قوله: {لَكُمْ فِيهَا دِفْء} وقد ذكر هذه المعنى في آية أخرى فقال: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} [النحل: 80]، والدفء عند أهل اللغة ما يستدفأ به من الأكسية، قال الأصمعي: ويكون الدفء السخونة.
يقال: أقعد في دفء هذا الحائط، أي في كنه.
وقرئ: {دف} بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الفاء.
والمنفعة الثانية: قوله: {ومنافع} قالوا: المراد نسلها ودرها، وإنما عبر الله تعالى عن نسلها ودرها بلفظ المنفعة وهو اللفظ الدال على الوصف الأعم، لأن النسل والدر قد ينتفع به في الأكل وقد ينتفع به في البيع بالنقود، وقد ينتفع به بأن يبدل بالثياب وسائر الضروريات فعبر عن جملة هذه الأقسام بلفظ المنافع ليتناول الكل.
والمنفعة الثالثة: قوله: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}.
فإن قيل: قوله: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} يفيد الحصر وليس الأمر كذلك، فإنه قد يؤكل من غيرها، وأيضًا منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللبس، فلم أخر منفعته في الذكر؟
قلنا: الجواب عن الأول: إن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم، وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط وصيد البر والبحر، فيشبه غير المعتاد.
وكالجاري مجرى التفكه، ويحتمل أيضًا أن غالب أطعمتكم منها لأنكم تحرثون بالبقر والحب والثمار التي تأكلونها منها، وأيضًا تكتسبون باكراء الإبل وتنتفعون بألبانها ونتاجها وجلودها، وتشترون بها جميع أطعمتكم.
والجواب عن السؤال الثاني: أن الملبوس أكثر بقاء من المطعوم، فلهذا قدمه عليه في الذكر.
واعلم أن هذه المنافع الثلاثة هي المنافع الضرورية الحاصلة من الأنعام.
وأما المنافع الحاصلة من الأنعام التي هي ليست بضرورية فأمور:
المنفعة الأولى: قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} الإراحة رد الإبل بالعشي إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلًا، ويقال: سرح القوم إبلهم سرحًا إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى.
قال أهل اللغة: هذه الإراحة أكثر ما تكون أيام الربيع إذا سقط الغيث وكثر الكلأ وخرجت العرب للنجعة، وأحسن ما يكون النعم في ذلك الوقت.
واعلم أن وجه التجمل بها أن الراعي إذا روحها بالعشي وسرحها بالغداة تزينت عند تلك الإراحة والتسريح الأفنية، وتجاوب فيها الثغاء والرغاء، وفرحت أربابها وعظم وقعهم عند الناس بسبب كونهم مالكين لها.
فإن قيل: لم قدمت الإراحة على التسريح؟
قلنا: لأن الجمال في الإراحة أكثر.
لأنها تقبل ملأى البطون حافلة الضروع، ثم اجتمعت في الحظائر حاضرة لأهلها بخلاف التسريح، فإنها عند خروجها إلى المرعى تخرج جائعة عادمة اللبن ثم تأخذ في التفرق والإنتشار، فظهر أن الجمال في الإراحة أكثر منه في التسريح. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {خَلَقَ الإنسان من نطفةٍ فإذا هو خصيم مبين}.
الخصيم المحتج في الخصومة، والمبين هو المفصح عما في ضميره، وفي صفته بذلك ثلاثة أوجه:
أحدها: تعريف قدرة الله تعالى في إخراجه من النطفة المهينة إلى أن صار بهذه الحال في البيان والمكنة.
الثاني: ليعرفه نعم الله تعالى عليه في إخراجه إلى هذه الحال بعدما خلقه من نطفة مهينة.
الثالث: يعرفه فاحش ما ارتكب من تضييع النعمة بالخصومة في الكفر، قاله الحسن، وذكر الكلبي أن هذه الآية نزلت في أُبي بن خلف الجمحي حين أخذ عظامًا نخرة فذراها وقال: أنُعادُ إذا صرنا هكذا.
قوله عز وجل: {والأنعام خلقها لكم فيها دفءٌ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه اللباس، قاله ابن عباس.
الثاني: ما ستدفىء به من أصوافها وأوبارها وأشعارها، قاله الحسن.
الثالث: أن الدفء صغار أولادها التي لا تركب، حكاه الكلبي. {ومنافِعُ} فيها وجهان:
أحدهما: النسل، قاله ابن عباس.
الثاني: يعني الركوب والعمل. {ومنها تأكلون} يعني اللبن واللحم. قوله عز وجل: {ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن الرواح من المراعي إلى الأفنية، والسراح انتشارها من الأفنية إلى المراعي.
الثاني: أنه على عموم الأحوال في خروجها وعودها من مرعى أو عمل أو ركوب وفي الجمال بها وجهان:
أحدهما: قول الحسن إذا رأوها: هذه نَعَمُ فلان، قاله السدي.
الثاني: توجه الأنظار إليها، وهو محتمل.
وقد قدم الرواح على السراح وإن كان بعده لتكامل درها ولأن النفس به أسَرُّ. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {خلق الإنسان من نطفة}.
يريد ب {الإنسان} الجنس، وأخذ له الغايتين ليظهر له البعد بينهما بقدرة الله، ويروى أن الآية نزلت لقول أبي بن خلف من يحيي العظام وهي رميم؟ وقوله: {خصيم} يحتمل أن يريد به الكفرة الذين يختصمون في الله ويجادلون في توحيده وشرعه، ذكره ابن سلام عن الحسن البصري، ويحتمل أن يريد أعم من هذا على أن الآية تعديد نعمة الذهن والبيان على البشر، ويظهر أنها إذا تقدر في خصام الكافرين ينضاف إلى العبرة وعيد ما.
{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)}.
{الأنعام} الإبل والبقر والغنم وأكثر ما يقال نعم وأنعام للإبل، ويقال للمجموع، ولا يقال للغنم مفردة، ونصبها إما عطف على {الإنسان} [النحل: 4]، وإما بفعل مقدر وهو أوجه، والدفء السخانة وذهاب البرد بالأكسية ونحوها، وذكر النحاس عن الأموي أنه قال: الدفء في لغة بعضهم تناسل الإبل.
قال القاضي أبو محمد: وقد قال ابن عباس: نسل كل شيء، وقد قال ابن سيده: الدفء نتاج الإبل وأوبارها والانتفاع بها، والمعنى الأول هو الصحيح، وقرأ الزهري وأبو جعفر: {دفء} بضم الفاء وشدها وتنوينها، والمنافع ألبانها وما تصرف منها ودهونها وحرثها والنضح عليها وغير ذلك، ثم ذكر الأكل الذي هو من جميعها، وقوله: {جمال} أي في المنظر، و{تريحون} معناه حين تردونها وقت الرواح إلى المنازل فتأتي بطانًا ممتلئة الضروع، و{تسرحون} معناه تخرجونها غدوة إلى السرح، تقول سرحت السائمة إذا أرسلتها تسرح فسرحت هي، كرجع رجعته، وهذا الجمال هو لمالكها ولمحبيه وعلى حسدته وهذا المعنى كقوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} [الكهف: 46]، وقرأ عكرمة والضحاك: {حينما تريحون حينًا تسرحون}، وقرأت فرقة: {وحينًا ترتحون}.
قال القاضي أبو محمد: وأظنها تصحيفًا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ}.
لما ذكر الدليل على توحيده ذكر بعده الإنسان ومناكدته وتعدّي طوره.
{والإنسان} اسم للجنس.
وروي أن المراد به أُبَيّ بن خلف الجُمَحيّ، جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعظم رَميم فقال: أترى يحيي الله هذا بعد ما قد رَمّ.
وفي هذا أيضًا نزل {أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ} [ياس: 77]. أي خلق الإنسان من ماء يخرج من بين الصلب والترائب، فنقله أطوارًا إلى أن ولد ونشأ بحيث يخاصِم في الأمور.
فمعنى الكلام التعجيب من الإنسان {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [ياس: 78]، وقوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ} أي مخاصِم، كالنسيب بمعنى المناسب.
أي يخاصم اللَّهَ عز وجل في قدرته.
و{مُّبِينٌ} أي ظاهر الخصومة.
وقيل: يبيّن عن نفسه الخصومة بالباطل.
والمبين: هو المفصح عما في ضميره بمنطقه.
{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)}.
فيه ثلاث مسائل:
الأولى قوله تعالى: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ} لما ذكر الإنسان ذكر ما مَنّ به عليه.
والأنعام: الإبل والبقر والغنم.